بعد أكثر من ثلاث سنوات على الأزمة الاقتصادية التي باتت تهدد بتمزيق أوروبا، مازال هناك بلد منهمكاً في توظيف عمال جدد، بلد يحرص على جلب أفضل وألمع المهارات من جيرانه.
وفي هذه الأثناء، يتقاطر آلاف المهنيين من إسبانيا واليونان المصابتين بالركود، على ألمانيا التي مازالت البطالة فيها متدنية، ويقول بعضهم إنهم قد لا يغادروها أبداً. غير أن الهجرة تمثل أكبر اختبار حتى الآن بالنسبة لوعد الاتحاد الأوروبي بإزالة الحواجز الاقتصادية بين الدول، في وقت يغادر فيه عمال مدرَّبون جيداً وطنهم بأعداد هي الأكبر منذ تشكل الاتحاد.
واليوم، أخذ الحق الجديد في العمل في أي مكان يتزاحم ويتنافس مع أحكام مسبقة قديمة حول عبور الحدود الوطنية. ونتيجة لذلك، هناك توتر جديد في الشراكة، حيث يشتكي بعض الألمان من تدفق المهاجرين بينما يشعر صناع السياسات الإسبان واليونانيون بالقلق نظراً لأن أملهم في الانتعاش أخذ يختفي تدريجياً.
بيد أن الانتقال إلى ألمانيا، وقد أصبح التدفق جداً مكثفاً لدرجة أن البلاد شهدت توقف عقد من التراجع في عدد السكان، ليس سوى أحدث تطور في عملية تزداد فيها بلدان أوروبا الغنية قوة في الوقت نفسه الذي تزداد فيه بلدان القارة الأقل غنى ضعفاً. ذلك أنه إذا كانت إسبانيا واليونان والبرتغال تكافح من أجل خلق آفاق جديدة في الداخل، فإن الناس والشركات الأقدر على مساعدتها على تحقيق ذلك أخذوا يفرون إلى الفرص في بلدان أخرى.
ذلك أن إنشاء الاتحاد الأوروبي منح العمال في الدول الأعضاء حرية التنقل؛ حيث يستطيع مواطنو بلدان أوروبا الغربية العيش والعمل في أي مكان في بلدان الاتحاد الـ27 بدون تراخيص خاصة أو تأشيرات. والحقوق نفسها بدأ يستفيد منها تدريجياً مواطنو بلدان أوروبا الشرقية الأعضاء الجدد في الاتحاد.
وبالنسبة لباولا بيرنيدو، 37 عاماً، وهي مهندسة من جزر الكناري الإسبانية التي تتمتع بالحكم الذاتي، فإن الثلوج التي تتساقط في مدينة توتلينجن الواقعة بمنطقة «الغابة السوداء» الجبلية، هي أهون مشاكل تأقلمها. إنها واحدة من بين 100 مهندس إسباني قصدوا هذا القطب الصناعي من ألمانيا في إطار زيارة خلال فصل الصيف، فبقي منهم ثلاثون هناك. وبعد أن فقدت وظيفتها في إسبانيا، قررت بيرنيدو الإقدام على المغامرة وتجريب حظها في ألمانيا التي كانت قد عاشت فيها لفترة قصيرة عندما كانت طالبة.
وفي إسبانيا، «لديك 800 أو 900 شخص يتقدمون للوظيفة نفسها»، تقول بيرنيدو. وبالمقابل، فإن العديد من الشركات الألمانية تقول إنها لا تستطيع إيجاد عدد كاف من العمال المهرة في ألمانيا. وفي ولاية بادن فرتمبرج الجنوبية المزدهرة، حيث يوجد مقر الشركة التي تعمل فيها بيرنيدو، يقول المسؤولون المحليون إن الشركات تستطيع توظيف 30 ألف مهندس إضافي.
معدل البطالة في ألمانيا بلغ 5٫4 في المئة في أكتوبر، أما في إسبانيا فبلغ 26٫2 في المئة، ودروس تعلم اللغة في معهد جوته تعرف إقبالا كبيراً جداً. وفي ألمانيا، ارتفع معدل الهجرة خلال النصف الأول من هذا العام بـ17 في المئة مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. وقد ارتفعت الهجرة من اليونان بأكثر من ثلاثة أرباع، بينما ارتفعت من إسبانيا والبرتغال بالنصف.
ويغوص أولئك العمال في عالم من الوظائف الثابتة وعلاقات العمل الرسمية، حيث ينادي الزملاء بعضهم بعضاً «هير» (السيد) و«فراو» (السيدة) لسنوات بشكل مستمر، بدلا من استعمال الأسماء الأولى.
وفي هذا السياق، تقول بيرنيدو، التي تعمل في «بايندر»، وهي شركة تصنع معدات وأجهزة المختبرات، منذ سبتمبر الماضي: «إن الطريقة التي يشتغل بها الناس على المشاريع هنا مختلفة تماماً»، مضيفة: «هناك عليك أن تحجز مواعيد مع أشخاص آخرين. أما في إسبانيا، فنقول حسناً لنلتق ونناقش ذلك. إن الأمر جدي جداً هنا».
لكن مكسب ألمانيا هو خسارة لإسبانيا؛ حيث تقول بيرنيدو إنه ليست لديها أي مخططات للعودة في الوقت الراهن. وفي غضون بضعة أسابيع، سيلتحق بها زوجها وابنهما ذو الخمس سنوات للعيش في ألمانيا أيضاً. وتتعاون السفارة الإسبانية عبر برامج لإيجاد العمل لمواطنيها في ألمانيا، علماً بأن كل عملية هجرة تخفف الضغط أكثر على شبكة السلامة الاجتماعية المجهدة في إسبانيا.
غير أن بعض الذين يختارون البقاء في اقتصادات أوروبا التي تعاني يعبِّرون عن الإحباط من ألمانيا قائلين إنها تفرض التقشف على جيرانها بينما تجني هي الثمار لنفسها. وتقول بيرنيدو: «إن بلدنا مستاء فعلا» بخصوص العمال الذين يغادرون إلى بلدان أخرى، مضيفة: «إنهم يقولون لقد أنفقنا على تعليمهم وتدريبهم، والآن ينتجون لحساب ألمانيا».
وبالمقابل، ينظر علماء الاقتصاد الألمان إلى سكان بلدهم الذين يزدادون شيخوخة وتقلصاً ويقولون إن جلب المهاجرين هو الطريقة الوحيدة التي سيستطيعون أن يسددوا بها الفواتير خلال السنوات المقبلة. غير أنه ومثلما أن إسبانيا ليست مرتاحة تماماً للتخلي عن العمال، فإن ألمانيا ليست مرتاحة تماماً لاستقبالهم. فذلك سيتطلب تحولا كبيراً في مواقف الناس في بلد ليست لديه تقاليد طويلة في التعددية الثقافية أو الانفتاح على الأجانب.
وفي هذا السياق، يقول هاينز رودي لينك، رئيس منظمة تنمية محلية قامت بتنظيم الزيارة الأولى للمهندسين الإسبان إلى الغابة السوداء: «بالنسبة لنا، هذا الأمر ينطوي على أهمية وجودية»، مضيفاً: «في غضون خمس إلى عشر سنوات، سيكون لدينا نقص يقدر بـ500 ألف شخص، لأنه ليس ثمة أحد».
Leave a Reply