النشطاء الذين وجه إليهم إتهام بتلقي أموال من خارج مصر طالبوا بتقديم المستندات التي تثبت تلقيهم هذه الأموال، وهو مطلب يصعب تحقيقه مالم تقدم الجهة المانحة نفسها المستند، إضافة إلى أنه لا يحق لأحد توجيه مثل هذا الإتهام بدون دليل، وهناك أمر آخر متعلق بالتمويل الخارجي للدورات التدريبية وحضور المؤتمرات بالخارج لبعض النشطاء من الشباب، وهذا أمر معروف ومعلن ولم يتم إنكاره.
يقودنا هنا سؤال عن ماهية كنية وأهداف الجهة التي أتاحت وأنفقت على هذه الدورات، سواء في صربيا أو في الولايات المتحدة الأمريكية.
أكثر الجهات التي لها نشاط في تمويل منظمات المجتمع المدني ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان في مختلف دول العالم، هي منظمة الصندوق القومي للديمقراطية (National Endowment for Democracy) أو (NED)، وهي بالمناسبة داعم رئيىسي لحركة أوبتور بصربيا ومنظمة فريدوم هاوس.
فإذا تجاهلنا كل ما قيل وكتب عن أهداف هذه المنظمة وعن الدور الذي لعبته في سقوط الكتلة الإشتراكية والثورات الملونة في شرق أوروبا وغيرها، وإذا تجاهلنا أن هناك ثورتان لم تكتملا بمنطقة الشرق الأوسط حدثتا قبل ثورة تونس وهما الثورة الخضراء في إيران وثورة الأرز أو عصير التفاح بلبنان (CIDER)، إلا أن الجملة التى قالها الرئيس الأول للصندوق القومي للديمقراطية وأحد أهم مؤسسيه، آلن وينستين، في عام 1991 لايمكن تجاهلها “إن الكثير مما نقوم بعمله اليوم كانت السي أي أيه تقوم بتنفيذه بشكل سري منذ 25 عاماً” A lot of what we do today was done covertly 25 years ago by the CIA.
بنظرة سريعة للأموال التي حصلت عليها منظمات المجتمع المدني في مصر من الصندوق القومي للديمقراطية، توجد منظمتان أمريكيتان تابعتان له بشكل مباشر وكلاهما على أجندة أعمالهم الأساسية قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية، وهما المركز الدولي للمشروعات الخاصة (Center for International Private Enterprise) ويتم إختصاره إلى (CIPE) وواضح من الإسم أنه مهتم بدعم ومساندة المشروعات الخاصة والصغيرة منها على الأخص، والمنظمة الثانية هي المركز الأمريكي الدولي للتضامن العمالي (American Center for International Labor Solidarity) وإختصاره (ACILS) وهي منظمة مهتمة بدعم حق العمال في إنشاء نقابات مستقلة بعيداً عن سيطرة الحكومات.
وبمناسبة الجدل الدائر حالياً حول حل الإتحاد العام لنقابات عمال مصر وهو إتحاد ساهم بنسبة كبيرة في إفساد الحياة السياسية في مصر وأضر كثيراً بالحركة العمالية، فسنعطي إهتماماً اكثر لمنظمة التضامن العمالي وهي منظمة تأسست عام 1997 عن طريق إتحادي المنظمات الصناعية والنقابات العمالية الأمريكية (American Federation of Labor and Congress of Industrial Organizations) وإختصاره (AFL-CIO) والذي تأسس في العام 1955 وهي منظمة ذات نفوذ قوي داخل الولايات المتحدة وتلعب دوراً هاماً في السياسة الخارجية الأمريكية وتعمل على إرساء ونشر قواعد إقتصاد السوق وفتح أسواق جديدة للمنتجات الأمريكية وكانت داعماً قوياً لحركة (تضامن) العمالية ببولندا لحظة الإنقلاب على الحكم الشيوعي.
وبمراجعة المبالغ التي صرفها الصندوق القومي للديمقراطية (NED) لمنظمات المجتمع المدني بمن فيهم المركز الدولي (CIPE) ومركز التضامن (ACILS) منذ عام 2005 إلى عام 2009، فإن الصرف تم على النحو التالي:
- في عام 2005 بلغ إجمالي المبلغ المنصرف لمنظمات المجتمع المدني (1,347,592$) لعدد (12) منظمة نصيب المركز الدولي منها (696,276$) ومركز التضامن (70,316$) والمعهد القومي الديمقراطي للشئون الدولية (275,000$) وهذا المعهد ليس له ذكر في السنوات التالية وربما كان وجوده فى هذا العام بسبب إنتخابات عام 2005
- في عام 2006 إنخفض إجمالي المبلغ المنصرف لمنظمات المجتمع المدني لأقل من النصف حيث بلغ (598,041$) لعدد (16) منظمة حصل منها المركز الدولي على (145,344$) ومركز التضامن على (102,922$)
- في عام 2007 *كان إجمالي المبلغ (1,206,749$) لعدد (16) منظمة حصل المركز الدولي للمشروعات الخاصة وحده على (848,249$) بينما لا يوجد ذكر لمركز التضامن في هذا العام
- في عام 2008 بلغ إجمالي الأموال المنصرفة على منظمات المجتمع المدني (1,498,908$) لعدد (17) منظمة حصل المركز الدولي على (889,227$) وعاد مركز التضامن هذا العام وحصل على مبلغ (272,191$) بزيادة أكثر من الضعف مما كان يحصل عليه قبل ذلك ولعلها صدفة وليس أكثر أنه في هذا العام ظهر بشكل ملفت أكثر من السابق المطالبة بإنشاء النقابات العمالية المستقلة وتزعم المطالبة وقادها العاملين بالضرائب العقارية
- في عام 2009 زاد التدفق المالي على مركز التضامن العمالي بأكثر من المركز الدولي للمشروعات الخاصة لأول مرة، فبلغت الأموال المتدفقة من الصندوق الوقفي للديمقراطية (1,419,426$) على عدد (33) منظمة حصل مركز التضامن على (318,757$) وحصل المركز الدولي للمشروعات الخاصة على (187,569$).
- لم يتوافر بعد البيان المالي لعام 2010.
واضح أن المبالغ المتدفقة على المنظمات الأمريكية أكبر بكثير من التي حصل عليها الجانب المصري ومن طبيعة أرقامها تبدو أنها أموال غير محددة القيمة مقدماً، أى الصرف يكون على حسب طبيعة العمل والظروف والإحتياج للأموال، بينما الأموال التي تحصل عليها المنظمات المصرية تكون بأرقام كما نقول (مقفولة ومقطوعة) دفعت لهم على دفعات متساوبة أو دفعة واحدة، فمثلاً في عام 2009 حصل منتدى الشباب على مبلغ (19,000$)، ومركز المساعدة القانونية للمرأة المصرية (34,400$)، وإتحاد الشباب المصري الليبرالي (33,300$)، والمعهد المصري الديمقراطي (48,900$) وقد يكون هذا الإستنتاج خاطئ ولكن هناك دائماً دلالة للأرقام.
بالرجوع إلى الموقع الرسمي لمركز التضامن على الأنترنت وعلى الصفحة الخاصة بمصر، توجد نبذة قصيرة عن نضال النقابات العمالية في إنشاء نقابات مستقلة والذي بدأ منذ العام 1952 وإنتهى في العام 2011 عندما أقر وزير شئون الموارد البشرية والهجرة بحق العمال في إنشاء نقابتهم المستقلة بعيداً عن سيطرة الحكومة خلال مؤتمر منظمة العمل الدولية في شهر مارس الماضي.
بدأ تاريخ نضال العمال لتكوين نقابات مستقلة قبل عام 1952 بكثير، فطبقاً لما جاء في مركز الدراسات الإشتراكية، وهو متفق مع كتابات أخرى، فإن بداية المطالبة بتكوين نقابات للعمال لحماية حقوقهم من التعسف وظلم أصحاب رأس المال بدأ مع عام 1899 بإضراب العمال الأجانب في شركة السجائر، وفي خزان أسوان بسبب قلة أجورهم عن نظرائهم في أوروبا ثم إنتقلت الفكرة إلى العمال المصريين فأضرب عمال نقل الفحم بمينا البصل وترام الأسكندرية وإستمر نضال العمال طويلاً حتى العام 1942 حيث أصدرت حكومة الوفد قوانين التأمين الإجبارى على العمال ضد حوادث العمل وتحديد ساعات العمل والأجور، ولم تشمل هذه القوانين العمال الزراعيين والعاملين بقطاع التمريض.
وكان أهم ماجاء فى تلك القوانين هو الإعتراف بحق تكوين النقابات وإن كانت تحت شبه سيطرة من الحكومة ولم يسمح لها بالعمل في السياسة أو تكوين نقابات عامة. لم ترضي هذه القوانين طموح العمال وأرجع البعض صدورها لتحسين صورة الوفد بعد أزمة فبراير 1942. ثم جاءت ثورة يوليو لتوفر للعمال لأول مرة في عام 1953 الحماية من الفصل التعسفي وحق الشكوى للقضاء حال حدوثه وسمحت بتكوين نقابات لمن لم يكن مسموح لهم من قبل، كالعمال الزراعيين.
ثم جاءت قوانين يوليو الإشتراكية عام 1961 لتوفر الدولة الحماية للعمال وتعطيهم نسبة تمثيل لا تقل عن 50% في مجالس إدارات الشركات التي يعملون بها وإعطائهم هم والفلاحيين نفس النسبة في المجالس المحلية والبرلمانية، ولا يستطيع أحد أن ينكر المزايا التي حصل عليها العمال والعاملين بالحكومة بعد ثورة 1952 وبرغم وجود عيوب في تنظيم العمل النقابي بعد الثورة لكن لايمكن مقارنتها بما كان قبلها، لذا فغير مفهوم أن يحدد مركز التضامن عام 1952 هو بداية عام النضال من أجل إنشاء النقابات المستقلة بما يوحي أن هذه الحرية كانت متوافرة للعمال قبلها وحرموا منها بعدها إلا إذا كان هناك غرض سياسي آخر وثأر مع ثورة 1952.
على نفس الصفحة الخاصة بمصر بموقع مركز التضامن، هناك تسجيل فيديو لكل من السيد/ كمال عباس منسق دار الخدمات النقابية والعمالية والسيد/ كمال أبو عيطة رئيس النقابة المستقلة للعاملين بالضرائب العقارية والتسجيل بدون تاريخ لكنه واضح أنه بعد ثورة 25 يناير، وفيه يتوجهان بالتحية لزملائهم بالإتحاد العام للنقابات العمالية الأمريكية بعد عودتهم من أمريكا بمناسبة تسلمهم جائزة الإتحاد هناك، يوجد كلام في التسجيل يمكن أخذه على سبيل المجاملة والحماس، وأنه تم الإعلان عن إنشاء إتحاد النقابات المستقلة في يوم 30 يناير بميدان التحرير أثناء ثورة 25 يناير، يوجد أيضاً نداء موجه للعاملين بحكومة ولاية ويسكنسن الأمريكية وحسهم على الإستمرار في نضالهم ضد الحكومة من أجل الحصول على حق التفاوض معها فيما يخص أمورهم والحصول على مزايا لهم مثل ما حدث مع العاملين بالنقابات المستقلة في مصر بحصولهم على حق التفاوض مع الحكومة… هذا حق دونه الدماء (جابوه لنفسهم الأمريكان!)، ولعلنا عرفنا الآن سبب من ضمن أسباب إلهام ميدان التحرير لموظفي حكومة ولاية ويسكنسن.
تبادر الحكومة الفيدرالية أو حكومات الولايات في الولايات المتحدة بإلغاء العديد من الوظائف الحكومية في حال وجود عجز في الميزانية و ذلك لتقليل النفقات مع تعويض موظفيها المنهية خدمتهم، والأزمة المالية الأخيرة ليست ببعيدة، ولم يقدر أحد على فعل شئ لوقف إنهاء خدمات العاملين، فالكل يعلم أنه يعمل في نظام سوق رأسمالي، فأنت لاتستطيع الحصول على بلح الشام وعنب اليمن في آن واحد، تريد التمتع بحماية الحكومة الكاملة من الفصل من العمل والحصول على كل مزايا العمل الحكومي وفى نفس الوقت تريد عمل نقابة مستقلة للتفاوض مع الحكومة للحصول على مزيد من المزايا، لايمكن أن تسير المنظومة بهذا الشكل وستختل في وقت ما، يوجد دائماً صيغة من التوازن بين الحكومة والعاملين لديها تحفظ للدولة هيبتها وقوتها وللعاملين حقوقهم دون إراقة دماء ودون وجود نظام فاسد.
وبعيداً عن العاملين بالحكومة الأمريكية، فمن الأخطاء القاتلة للنظام المصري السابق عدم إعطاء العمال حق إنشاء نقابات مستقلة للدفاع عنهم بعد تنفيذه لسياسات الخصخصة المريبة والفاسدة، وذلك لحماية العمال من إستغلال الملاك الجدد، فنتائج الخصخصة وتخلي الدولة عن حماية العمال كانت من ضمن الأسباب الرئيسية والأساسية لثورة 25 يناير.
نقطة أخيرة يوجد لمركز التضامن العمالي أربعة مكاتب رئيسية بمنطقة الشرق الأوسط حسب موقعه الرسمي، في كل من المغرب والجزائر ولبنان وقطر، فمن كان يراقب طرق صرف الأموال في مصر؟
* ملحوظة: يوجد خطأ في أرقام عام 2007 على الموقع الخاص بمنظمة NED وقد أخذنا بالرقم الذي يبدو أنه منطقي وهو الرقم الأقل قيمة.
محمد النجار – الولايات المتحدة الأمريكية
Leave a Reply